عندما كان أوليفر ساكس، طبيب الأمراض العصبية الشهير، طالباً في المدرسة، دوّن أحد مدرسيه ملاحظة على بطاقة تقييمه كتب فيها “سيكون لساكس مستقبل كبير وربما أكبر مما نتصور”، ويبدو أن المدرس استشرف ببعد نظره مستقبلا باهرا لتلميذه، إذ أثبتت الأيام أن إنجازات ساكس فاقت جميع التصورات، وقد حاول ساكس فعلاً تخطي حدوده العادية، فمنذ طفولته وهو يجمع المواد الكيميائية في المنزل إلى أن كاد يتسبب بحريق بعد عبثه بها، وعندما أصبح شاباً، تعاطى المخدرات في البداية للحصول على المتعة وخوضها كتجربة إلى أن أصبح مدمنا عليها. عاش ساكس بعيدا عن المنزل، حيث أنهى دراسة الطب، ثم غادر موطنه إنجلترا إلى الولايات المتحدة ليبدأ هناك بناء مستقبله المهني، فقد كان يشعر على الدوام بحاجته لفضاء أرحب وأوسع من محيطه. ينحدر ساكس من عائلة تعمل بالطب، فكلا والديه واثنين من إخوته أطباء، وبسبب إصابة أخيه ميشيل بانفصام الشخصية فإن أجواء المعاناة والكآبة التي ملأت منزل العائلة كانت أكثر من قدرة أوليفر –أصغر أفرادها- على التحمل. أضحى ساكس مولعا بالغوص في أعماق مهنته، وقد طور اتجاها للاهتمام بالأشخاص الذين يجعلهم المرض مهمشين، كالمصابين بالشلل الرعاشي أو التوحد أو ممن يعانون ما نسميه بالـ”خرف” أو الهلوسة أو التهيؤات البصرية لكبار السن، وقد تمكن ساكس من منحهم حياةً من خلال عمله عبر الاهتمام بهم والنظر إليهم كمخلوقات بشرية لها تاريخ وذكريات وليسوا كمرضى فحسب. وقد سعى ساكس من خلال عمله على الجمع بين الاهتمام بالمرضى وشغفه بكتابة قصص حياة الآخرين وكأنه شاهد عليها بطريقة ما. 11005movie0 اكتشف الكثير من الناس ساكس من خلال كتابه الصحوات (Awakenings) الصادر عام 1973، والذي تم تجسيده في فيلم يحمل ذات الاسمعرض عام 1990 حيث لعب روبن ويليامز دور البطولة (دور ساكس) بينما جسد روبرت دينيرو دور المريض. ويصف ساكس في الكتاب عمله مع المرضى نزلاء المستشفيات الذين يبدون مجمدين في نوم الشلل الرعاشي لعقود طويلة، وكأنهم بشر تم تخزينهم ووضعوا على الرف بكل بساطة، فما كان منه إلا أن عالجهم بالدواء التجريبي L-DOPA، والذي بدا وكأنه يعيدهم إلى الحياة من جديد، إلا أنه من المؤسف أن حالة الصحوات الجسدية كانت قصيرة الأجل، ورغم ذلك فقد أثار الكتاب العديد من الأسئلة حول الأمراض المستعصية وطرق علاجها فقد رأى ساكس أن بعض طرق العلاج تكون عبر رعاية المريض والتعرف عليه، أو بالأحرى التعرف على الشخص الذي يعيش خلف هذا المرض ورعايته وعدم الاكتفاء برؤيته كشخص مريض فقط.

ساكس وفرويد

فرويد وعلى الرغم من تدوينه للعديد من الملاحظات حول مرضاه ملأ بها آلاف صفحات المجلات والحوليات المتخصصة حول العديد من الأفكار التي حفزته وأثارته في عمله، إلا أن ساكس عادة ما عانى من جفاف أفكار الكاتب أو ما يسمى بـ “قفلة” الكاتب التي لا تمكنه من الكتابة. ويروي لنا صراعه لإنهاء كتابه الصحوات (Awakenings)، والذي تمكن من إنهائه بدافع التكريم لوالدته التي توفيت. وقد كانت ردة فعل ساكس تجاه وفاة والدته تماثل ماحصل مع فرويد الذي ألف كتاب “تفسير الأحلام” The Interpretation of Dreams)) كردة فعل على فقدانه لوالده. كلا الرجلين فقد أحد الوالدين عندما كان في الأربعين، وفي حين حول فرويد انتباهه لأحلام مرضاه، فإن ساكس يسعى جاهدا لإيقاظ مرضاه من سباتهم. يرى ساكس بأنه يسير على خطى فرويد ودكتور الأمراض العصبية الروسي أى آر لوريا (A. R. Luria)، فهم جميعاً أطباء أخذوا على عاتقهم تصوير وتوثيق الحياة الكاملة للمريض عوضاً عن تغطية مرضه فحسب. كانت الدراسات حول الحالات التي عالجوها تحمل سرداً فريداً، وكان ساكس يريد أن يتم الاعتراف بدراساته السريرية كإنجازات أدبية وليست كدراسات علمية فقط، وقد تأثر ساكس لدرجة البكاء عندما أشاد صديقه الشاعر أودن (W. H. Auden) بكتاب الصحوات ووصفه بأنه “تحفة رائعة”.
متعلق:  Here are Apple's new products
وإذا كان كتاب الصحوات (Awakenings) قد فتح باب القبول الأدبي والاعتراف المتزايد بساكس، فإن “كتاب الرجل الذي حسب زوجته قبعة” The Man Who Mistook His Wife for a Hat) ) (1985) حوّل المؤلف وطبيب الأمراض العصبية إلى شخصية عامة. حيث تناول حالة رجل مصاب بالعمه البصري، وهو عدم القدرة على التعرف على الأشياء المرئية، بما في ذلك الأشخاص. وقد ساعدنا ساكس على رؤية العالم من منظور هذا الرجل ومن وجهات نظر أولئك الذين اهتموا بأمره. وقام ساكس بالشيء ذاته مع الأشخاص الذين يعانون من متلازمة توريت (وهو خلل عصبي يظهر على شكل حركات عصبية لا إرادية)، بالإضافة إلى الأشخاص الذين يعانون من فقدان القدرة على الكلام وفقدان الذاكرة وكذلك المصابون بالتوحد. كما كتب من قبل عن إصابته بعمه التعرف إلى الوجوه، الذي أعاق قدرته على التعرف على وجوه الناس الذين يعرفهم، بما في ذلك أولئك الذين يعرفهم بشكل جيد. وهو يحاول ككاتب لفت أنظارنا إلى أنه برغم قساوة هذا العجز، فللإنسان قدرة عجيبة على إيجاد فهم لهذا العالم المختلف بل والنجاح والازدهار من خلاله. ويتحدث ساكس عن مرضاه بالقول أن “ظروفهم هي الشيء الجوهري المؤثر بحياتهم وغالبا ما تكون مصدراً للابتكار والإبداع”. وبسبب معاناته الخاصة فإنه لم يقم بتخفيف أو تلطيف حالات الرهبة التي يواجهها مرضاه. فهو يدرك تماما أن لا وجود لطريق مرسومة وواضحة للتعافي، إذ يرى أن على كل مريض أن يجد حلولاً خاصة به للتحديات التي يواجهها.

الدماغ أوركسترا بدون قائد

music يمتلك ساكس روابط عميقة مع الشعراء والعلماء، وينجذب بشدة إلى جيرالد إيديلمان، ذو الرؤية الداروينية في علم الأعصاب، والذي يصور الدماغ على أنه “أوركسترا… بدون قائد… أوركسترا تعزف موسيقاها الخاصة”. وقد بدأ ساكس كتابه بحكمة معبرة نقلها عن الفيلسوف كيركغارد فيقول “الحياة يجب أن نعيشها ونحن نتطلع للأمام، ولكن لا يمكن فهمها إلا بالنظر للخلف”. قبل بضعة أشهر أصيب محبو ساكس بالحزن لدى قراءتهم إعلانه في مقال بالنيويورك تايمز بأنه “سيء الحظ” لإصابته بسرطان مزمن، فكان ذلك بمثابة إغلاق نافذة مهمة من النوافذ التي تطل على العالم الذي نعيش فيه. وتمثل مذكرات ساكس المنشورة حديثاً صفحات متألقة تفتح نوافذ تنير العالم فعلاً، وفيها يفتح ساكس قلبه للناس بقدر ما قام بمساعدة الآخرين وفتح لهم نوافذ الأمل وتشجيعه لهم على الإفصاح عما يجول في خواطرهم. وفي تصريحات مقتضبة تلخص  ما يقارب 50 عاما من التحليل النفسي، يخبر ساكس القراء أن طبيبه النفسي ليونارد شينغولد علّمه “الاهتمام والاستماع إلى ما يكمن وراء الكلمات.. ووراء الوعي”. وهذا ما قام به ساكس أثناء حياته كمعالج ومن خلال عمله ككاتب. كان والد ساكس معالجاً نفسياً استمر بمعالجة المرضى حتى بلغ التسعين من عمره، وقد وصفه الحبر الأعظم لإنجلترا بأنه رجل صالح، وخلال حياته، علمنا أوليفر ساكس محاولة فهم العالم باستقامة، والتعامل مع الناس بكرم أخلاق وعطف ورعاية، وهو في ذلك يشبه والده، ويمكننا تسميته كذلك بالرجل الصالح، إلا أن الإبن الذي رأى فيه أحد أساتذته أنه “سيكون له مستقبلاً كبيراً”، قد لا يكون سعيدا بما فيه الكفاية لمجرد أن يكون رجلا صالحا … فهو يسعد لمجرد كونه إنساناً فقط.