الاربعاء 7 مايو 2025
قصتي مع نزول المطر
الساعة 10:07 صباحاً
محمد مصطفى العمراني محمد مصطفى العمراني

من القصص التي عشتها ولا أنساها أيدا ما حييت أنني في منتصف التسعينيات وقعت في أول رهان كبير في حياتي، والذي تحول إلى ورطة كبيرة لا أنساها طول عمري:
لقد صحوت مذعورا ذات ليلة على صوت رعد تبعه مطر كانت قريتنا في جدب لا يعلمه إلا الله، ولذا لم أصدق في البداية بأن المطر يهطل فعلا، تخيلت أنني أحلم لكن تتابع أصوات الرعد والمطر والسيول التي بدأت تتدفق من أماكن عدة جعلني أصدق أن ما يحدث حقيقة.

بعد أن خف المطر فتحت النافذة فرأيت بعض أضوء الفوانيس والكشافات تسير في الطرقات، لقد تحرك البعض من الفلاحين إلى حقولهم يطمئنون هل أرتوت بالماء؟
ومع انبلاج الضوء سارع الفلاحون إلى حقولهم ليجدوها قد ملئت بالماء وتحولت إلى برك متجاورة فاستبشروا خيرا، وبعد أيام كان الجميع يشقون الأرض ويرمون الحبوب في حقولهم ويرددون الأهازيج كأنهم في كرنفال جماعي بهيج.

كنت مع إخواني وأولاد عمي قد صعدنا إلى مؤخرة الجرار الذي يشق الأرض فنرمي الحب فيها حتى اذا فرغت أوعيتنا قمنا بملئها من جديد، ولم تمض أيام حتى أخضرت الأرض واكتست الحقول ثوبها الأخضر البديع، لكن المطر توقف.
مضت أيام ثم أسابيع ثم أشهر ولم ينزل المطر، وشح الماء في الآبار فأصيب الناس بيأس مخيف.
ضمر الورع ثم يبس، وتجمعنا في باحة المدرسة للإستسقاء، واستغربت حين لبس الناس ثيابهم مقلوبة.
وأمرونا نحن الأطفال بأن نقلب ثيابنا فسارعت إلى قلب الكوت فسقطت فدرة الحلوى التي كنت أخفيها في الجيب الداخلي للكوت، وتناثرت نقودي، وهرع الأطفال يلتقطونها ويفرون وأنا أطاردهم.
جلسنا فوق الحصى بين حر الشمس، وبعد الصلاة ذبح أحدهم ثوره ووزع لحمه على الناس مجانا فعدنا بكيس من اللحم.
وانتظر الناس المطر لكنه لم يأت.!
ومرت أسابيع أخرى ولم تنزل قطرة.!

في تلك الأيام القاحلة حين كنت أنبش في خزانة الكتب عثرت على كتاب أصفر قد تمزقت الكثير من صفحاته وهالني ما قرأته: (..واذا توقف المطر واستحكم الجفاف وازداد القحط وأردت نزول المطر بإذن الله فأكتب بالقلم اليراع على ثمرة الدباء أو اليقطين من أول سورة الواقعة إلى قوله تعالى: ( وماء مسكوب).
ثم علقها على شجرة بحيث تصبح في مهب الريح وتهتز، وحينها سيهطل المطر باذن الله، واذا استمر نزوله فأمحو ما كتبت وحينها سيتوقف.
وفرحت بما قرأت كأنني قد عثرت على كنز ثمين، إنها فرصتي التاريخية لإنقاذ الوضع في القرية.
أسرعت فوضعت الكتاب في النافذة وذهبت إلى الناس أبشرهم بنزول المطر غدا، البعض كانوا يقولون:
_ إن شاء الله. ربنا كريم.
والغريب أن أكثرهم سخروا مني وضحكوا علي.
فأكدت لهم " إن موعدنا غدا. واصبروا ولا تستعجلوا " فهزوا رؤوسهم ضاحكين، لقد تحول الأمر إلى ما يشبه الرهان والتحدي بيني وبين الناس. وبت في تلك الليلة وأنا أفكر في الأمر وأتساءل بيني وبين نفسي :
_ ماذا لو لم ينزل المطر ؟!
_ ماذا سيقول الناس عني ؟!
_ ستكون فضيحة بجلاجل.
ثم أعود وأطمئن نفسي:
_ في النهاية سأخبرهم الحقيقة وأريهم الكتاب وليكن ما يكون.

بعد ظهر اليوم التالي بحثت عن الكتاب في كل مكان فلم أجده، وحين وجدتني أمي أبحث سألتني:
_ هل تبحث عن الأوراق الصفراء التي في النافذة ؟
_ أيوه أين هي؟
_ أكلتها البقرة.
_ إيش ؟
هرعت إلى المطبخ والشرر يقدح من عيوني وأخذت السكين، وقد عزمت على ذبح هذه البقرة المسعورة التي تقرط أي شي، لحقتني أمي تحذرني:
_ لا تجنن يا محمد هي قارشة لا تعقل.
رميت السكين وألهبت ظهر البقرة بعصا غليظة ففرت هاربة فأتبعتها برشقة أحجار، ثم هدأت قليلا وقلت لنفسي:
_ طالما قد حفظت السر فما هو الداعي للكتاب؟!
كتبت على الجعفة " الدبية " من بداية سورة الواقعة إلى آية ( وماء مسكوب) كما حفظت من الكتاب، ثم علقتها على الشجرة وانتظرت هطول المطر ولكن المطر لم ينزل والجو لا يزال صحوا والسماء صافية لا سحابة فيها ☁️.!
صعدت الأكمة التي بجوار منزلنا أبحث في كل الجهات فلم أجد حتى نتفة من سحاب أو بصيص أمل.!
_ يا فضيحتاه.!
_ يا مخارج الأخجف إذا ودف.
_ اللهم لا تفضحني بين خلقك يارب.
_ يارب توبة لو زدت أتفضول.
أيقنت بأني قد كذبت على الناس وأنتهى أمري، بدلا من أن أصبح وليا من الصادقين سأصبح كاذبا من الكاذبين.

تناولت طعامي ثم قررت أن أختبأ من الناس فدخلت إحدى الغرف وأغلقت النوافذ وحاولت النوم فلم يغمض لي جفن، وحينها قمت فتوضأت وصليت ودعوت الله أن ينزل المطر، وأن لا يفضحني بين الخلق، دعوت الله بحرقة وإخلاص وبكيت.
ثم واصلت الدعاء والبكاء، وحين سمعت صوت يشبه الرعد قلت في نفسي:
_ هذا صوت الكرة، أنا في حالة مزرية والأطفال يلعبون؟!

وواصلت الدعاء والنحيب ولم أعلم كم مضي من الوقت ما أتذكره أن الريح من شدتها أطارت بشباك النافذة الخشبي من مكانه فرأيت مطرا لم أره في حياتي.
ومن شدة فرحي سجدت شكرا لله.
وتواصل المطر وأشتد فداخلني خوف شديد، وأيقنت بأننا سنغرق فعلا فهرعت إلى الجعفة " الدبية" فلم أجدها فأيقنت أننا سنغرق فعدت أدعو الله أن يوقف المطر.
والحمد لله خف المطر رويدا رويدا وخرجت فهرع إلي الناس يقبلون يدي ويتبركون بي، ولكنني خشيت من الفتنة وأن يداخلني الغرور وأصدق فعلا أنني ولي من أولياء الله الصالحين، وأنني صاحب كرامات ومستجاب الدعوات ففرت إلى قرية أخوالي لكنني ما إن وصلت عندهم حتى كان الخبر قد سبقني إليهم.
وبعد وصولي لمنزل خالي تجمعت بضعة نسوة تتقدمهن خالتي التي طلبت مني أن أكتب لهن تمائم كي يحملن ويرزقهن الله بذرية صالحة.
وحينها فررت من قرية أخوالي وعدت إلى قريتي من جديد.!


آخر الأخبار