آخر الأخبار


الجمعة 13 يونيو 2025
تدفع الظروف مجاميع من البشر إلى الاجتماع في مكان ما لمصالح اقتصادية وسياسية، تبحث تلك المجاميع عما يجعلها كتلة موحدة لمواجهة القوى المختلفة سواء كانت طبيعية أو بشرية، لاتقاء المفاسد وجلب المنافع. هذا التجمع كان يسمى قبيلة، والقبيلة «قوم أتوا من كل قبيل»، أي من كل جهة. وفي تشكيلة القبيلة يبرز عامل «المكان»، كجهة قدوم، ومحل إقامة.
القبيلة ـ إذن – عبارة عن تجمع لعشائر «متعددة الأجداد»، جمعها «مكان واحد»، في «تحالف قبلي»، حتّم اختراع «جد واحد»، أو «أصل طوطمي» واحد، يجمع عناصر ذلك التحالف المختلفة، كأن يكون هذا الجد لأكبر تلك العشائر، ثم يعمم الانتساب إليه على باقي العشائر، من أجل ضمان وحدة القبيلة أو التحالف القبلي لتحقيق أهداف معينة.
ولكن، ألا يوجد «جد واحد» لمجموعة من الناس؟ بالطبع يوجد، وهذه المجموعة تسمى «عشيرة»، وهي مأخوذة من تقليد عربي قديم، بمقتضاه كان العرب يفاخرون بإنجاب الرجل «عشرة» من الولّد»، ثم عمم اسم «العشيرة»، ليطلق على «أبناء الجد الواحد»، مهما كان عددهم، على عكس القبيلة التي يمكن أن تنتسب لأجداد مختلفين، يجمعهم تحالف قبلي، ينتسب لجد افتراضي متخيل، لا وجود له إلا في مخيلة أفراد هذا التحالف.
ومع جملة من العوامل الاقتصادية والسياسية والثقافية تطورت المجتمعات البشرية، وبدأت عمليات التحول الكبيرة من العشيرة (أبناء الجد الحقيقي الواحد) إلى القبيلة (أبناء الجد الافتراضي الواحد) في تغليب لعامل «الانتماء الطيني» على «الانتساب الجيني»، وهو انعكاس للتطور من «الدوغمائية الجينية» إلى «البراغماتية الطينية»، أو من «الجد» إلى «الوطن»، إن جاز التعبير.
قبل تلك المرحلة لم تكن فكرة الانتماء للمكان حاضرة في العقلية العشائرية، حيث وطن البدوي خيمته، وجدُّهُ انتماؤه، ولهذا كانت العشائر البدوية تنتقل من مكان إلى آخر، قاطعة أواصر الانتماء بأي مكان (وطن) لأن المهم في هذه المرحلة كان «الانتماء الجيني»، ومادام جميع أفراد العشيرة ينتقلون فإنه لا يتبقى من الوطن إلا «أطلال» يبكي عليها الشعراء، ليس لكونها وطناً، بل لكونها ذكرى حبيب غارب.
وفي المراحل المجتمعية التي مر بها البشر تنعكس صورة تطور أنماط الحياة والفكر والمعتقدات والفنون والآداب والانتماءات من مرحلة العشيرة والانتماء الجيني إلى مرحلة القبيلة وانتماء هو مزيج بين الديني والمكاني، وصولاً إلى مرحلة الشعب والانتماء الوطني الذي يفترض أنه خلص إلى حدٍ ما من علائق الانتماءات الأخرى.
ومع تحول الإنسان من العشيرة إلى القبيلة إلى الشعب، وانتقاله من بيت الشَّعْر إلى بيت الطين إلى ناطحات السحاب الإسمنتية، تغلبت فكرة الانتماء للمكان على فكرة الانتماء للجد، حيث تعيش مجموعات بشرية غير مترابطة جينياً، ولكنها مرتبطة وطنياً، عبر جملة من المصالح الاقتصادية والسياسية التي تنعكس في الانتماء لمكان واحد، لا جد واحد، هذا المكان تم الاصطلاح على تسميته وطناً، بما يحمله الجذر الثلاثي لكلمة «وطن» من إيحاءات «المكوث والاستقرار، وتجاوز مرحلة الترحل والانتقال».
مع هذا التجاوز ولدت مرحلة الدولة والشعب، بانتقال الإنسان من طور العشيرة/القبيلة إلى طور الشعب، وانتقاله من أساليب الحياة القبلية في البوادي والغابات إلى أساليب العيش المدنية على ضفاف الأنهار، حين بدأت مرحلة الاستقرار، والانتقال من مرحلة الصيد إلى مرحلة الزراعة، وما بعدها، وصولاً إلى الثورة الصناعية، وما تلاها من ثورات.
ومع كل ذلك، فإن مراحل التطور ليست واضحة الحدود، إذ يحصل تداخل مرحلتي تطور في زمن ومكان معين، فتتعايش القبيلة والدولة لدى بعض المجتمعات، ومن هنا يقوى أحياناً الحنين للمرحلة الطوطمية والجد الجيني، وحكايات «العرق النقي»، و«شعب الله المختار»، و«الطيبون الأطهار». وإذا كانت المصالح الاقتصادية ـ في المقام الأول ـ هي دافع حركة التاريخ، كما يرى كارل ماركس، فإن تلك المصالح ـ فيما يبدو ـ تلعب دوراً مهماً في محاولات الإنسان المعاصر التقوقع حول الأفكار اليمينية، مثل: «الوطنية العصبوية» و«القومية الشوفينية» والعودة لفكرة «العرق الآري» و«الرجل الأبيض» و«السلالة الطاهرة»، ومحاولة إنتاج الأفكار العشائرية في حلة معاصرة أنيقة، مدعمة بمبتكرات التكنولوجيا الحديثة، ومدعومة بنظريات فلسفية وأفكار دينية، لتبرير سلوكيات وتدعيم رؤى لا تعدو كونها ترجيعاً لتصورات رجل الغابة أو البادية القديم عن الإنسان الكون والحياة.
ومع انهيار المعسكر الشرقي الذي كان ـ ولو نظرياً ـ الحامل الرئيس لتوجهات اليسار العالمي بدأت حركات اليمين في التضخم، ومع العقود الماضية اكتسبت تلك الحركات في أوروبا والأمريكيتين زخماً شعبياً واسعاً، أوصل الكثير منها إلى السلطة، في مؤشرات على أن «البدوي الصغير» الذي يسكن داخل كل منا بدأ يكبر ويشب عن الطوق، حتى خرج إلى الشارع، ببدلة أنيقة، حاملاً جهاز حاسوب متقدم، وآخر مبتكرات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وبدأ يخاطب الناخبين ببرامج انتخابية، مكنته من صدارة المشهد السياسي.
وبوصول التيارات اليمينية إلى السلطة يقترب «الأداء السياسي» من «الأداء العشائري»، ويبدأ الحديث عن القوة الخشنة، وتختفي لغة الدبلوماسية، في مقابل بروز التهديد بالحرب، ولا تعدو الدولة – والحالة تلك – كونها قبيلة على هيئة دولة، ويصبح رأس الدولة شيخ عشيرة بربطة عنق، و«زِر نووي»، مكان العمامة و«الرمح الرديني»، وتصبح المصالح الاقتصادية التي دفعت الإنسان للانتقال من مرحلة العشيرة/القبيلة إلى مرحلة الشعب، تصبح هذه المصالح دافعاً له للعودة – مجدداً ـ لعباءته القديمة، ويرجع الإنسان المعاصر كائناً بدائياً، يبحث عن «جده الجيني أو الطوطمي»، بدلاً عن «أبيه الوطني الترابي» الذي ذكر نبي الإسلام أنه جد البشرية كلها، حين قال: «كلكم لآدم، وآدم من تراب»، في لفتة عميقة، لأصل الإنسان وحقيقة انتمائه.
نقلا عن "القدس العربي"
فكرة الانتماء بين الجين والطين
معركة التحرير أو العبودية !
الطريق وجراثيم الكراهية
وقاحة فكرية وفقهية وعقائدية
الوطن لا يُبنى بالخرافة